الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثم أشار إلى إحسان ضيافتهم بقوله: {فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أي: مشوي، أو سمين يقطر ودكه، لقوله: {بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات: من الآية 26].في (ما) ثلاثة أوجه: أظهرها أنها نافية، وفاعل (لبث) إما ضمير (إبراهيم)، و: {أنْ جاءَ} مقدر بحرف جر متعلق به، أي: ما أبطأ في، أو بأن أو عن (أن جاء)، وإما (أن جاء) أي: فما أبطأ، ولا تأخر مجيئه بعجل. وثاني الأوجه: أنها مصدرية، وثالثها: أنها بمعنى (الذي) وهي فيهما مبتدأ، و(أن جاء) خبره على حذف مضاف. أي: فلبثته، أو الذي لبثه قدر مجيئه.القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [70].{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ} أي: لا يمدون إليه أيديهم: {نَكِرَهُمْ} أي: أنكرهم: {وَأَوْجَسَ} أي: أحس: {مِنْهُمْ خِيفَةً} لظنه أنهم بشر أرادوا به مكروهًا. والضيف إذا همَّ بفتك لا يأكل من الطعام في عادتهم: {قَالُواْ} أي: له لما علموا منه الخوف بإخباره لهم، كما في آية: {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لا تَوْجَل} [الحجر: من الآية 52- 53]. كما قيل هنا: {لاَ تَخَفْ} أي: إنا لا نأكل لأنا ملائكة، ولم ننزل بالعذاب عليكم: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} أي: لإهلاكهم.القول في تأويل قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ} [71]{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} أي: سرورًا بزوال الخيفة، أو بهلاك أهل الخبائث: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ}. أي: يولد له. والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة، أو أنهما حكيا بعد أن ولدا وسُمَّيا بذلك. وتوجيه البشارة إليها هنا، مع ورود البشارة إلى إبراهيم في آية أخرى، كآية: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101]، {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: من الآية 28]؛ إيذان بمشاركتها لإبراهيم في ذلك حين ورودها، وإشارة إلى أن ذكر أحدهما فيه اكتفاء عن الآخر، والمقام أمس بذكره وأبلغ. أو للتوصل إلى سوق نبئها في ذلك، وخرق العادة فيه، كما لوح به تعجبها في قوله تعالى:القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [72].{قَالَتْ يَا وَيْلَتَى} أي: يا عجبي. وأصله للدعاء بالويل ونحوه، في جزع التفجع لشدة مكروه يدهم النفس، ثم استعمل في التعجب. وألفه بدل من ياء المتكلم، ولذلك أمالها أبو عَمْرو وعاصم في رواية، وبها قرأ الحسن (يا ويلتي). وقيل: هي ألف الندبة، ويوقف عليها بهاء السكت.{أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ} أي: امرأة مسنة- والأفصح ترك الهاء معها- وسمع من بعض العرب (عجوزة)- حكاه يونس-: {وَهَذَا بَعْلِي} أي: زوجي إبراهيم: {شَيْخًا إِنَّ هَذَا} أي: التولد من هرمين: {لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} أي: غريب، لم تجر به العادة.القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} [73].{قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ} أي: أتستبعدين من شأنه وقدرته خلق الولد من الهرمين؟.قال الزمخشري: وإنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها؛ لأنها كانت في بيت الآيات، ومهبط المعجزات، والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر، ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب، وإلى ذلك أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم: {رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} أردوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة، ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة، فليست بمكان عجب. والكلام مستأنف، علل به إنكار التعجب، كأنه قيل: (إياك والتعجب) فإن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم- انتهى-.فالجملة خبرية، وجوز كونها دعائية. و(أهل البيت) نصب على النداء أو التخصيص؛ لأن أهل البيت مدح لهم؛ إذ المراد أهل بيت خليل الرحمن.{إِنَّهُ حَمِيدٌ} أي: مستحق للمحامد، لما وهبه من جلائل النعم: {مَّجِيدٌ} أي: كريم واسع الإحسان، فلا يبعد أن يعطي الولد بعد الكبر. وهو تذييل بديع لبيان أن مقتضى حالها أن تحمد مستوجب الحمد المحسن إليها بما أحسن وتمجده؛ إذ شرفها بما شرف.القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [74].{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} أي: خيفة إرادة المكروه منهم بعرفانهم: {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىْ} أي: بدل الروع: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} أي: في هلاكهم استعطافًا لدفعه.روي أنه قال: أتهلك البار مع الأثيم، أتهلكها وفيهم خمسون بارًا؟ حاشا لك!.فقيل له: إن وجد فيهم خمسون بارًا فنصفح عن الجميع لأجلهم!.فقال: أو أربعون؟.فقيل: أو أربعون!.وهكذا إلى أن قال: أو عشرة، فقيل له. لا نهلكها من أجل العشرة، إلا أنه ليس فيها عشرة أبرار، بل جميعهم منهمك في الفاحشة. فقال: إنه فيها لوطًا! فقيل: نحن أعلم بمن فيها لننجينه.و: {يُجَادِلُنَا} جواب (لما) جيء به مضارعًا على حكاية الحال. أو أن (لما) كـ (لو) تقلب المضارع ماضيًا، كما أن (إن) تقلب الماضي مستقبلًا، أو الجواب محذوف، والمذكور دليله أو متعلق به.القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} [75].{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ} أي: غير عجول على الانتقام من المسيء: {أَوَّاهٌ} كثير التأسف: {مُّنِيبٌ} أي: راجع إلى الله في كل ما يحبه ويرضاه. والمقصود بتعداد صفاته الجميلة المذكورة؛ بيان الحامل على المجادلة، وهو رقة القلب وفرط الترحم.القول في تأويل قوله تعالى: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [76].{يَا إِبْرَاهِيمُ} أي: قيل له: يا إبراهيم: {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} أي: الجدال: {إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ} أي: حكمه بهلاكهم: {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} أي: بجدال ولا بدعاء، ولا بغيرهما.فوائد:قال بعض المفسرين: لهذه الآيات ثمرات: وهي أن حصول الولد المخصص بالفضل نعمة، وهلاك العاصي نعمة، لأن البشرى قد فسرت بولادة إسحاق، كما في آخر الآية، وهي: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} إلخ وفسرت بهلاك قوم لوط.ومنها: استحباب نزول المبشِّر على المبشَّر؛ لأن الملائكة أرسلهم الله بذلك.ومنها: أنه يستحب للمبشَّر تلقي ذلك بالطاعة، شكرًا لله تعالى على ما بُشر به.وحكى الأصم أنهم جاؤوه في أرض يعمل فيها، فلما فرغ غرز مسحاته، وصلى ركعتين.ومنها: أن السلام مشروع، وأنه ينبغي أن يكون الرد أفضل؛ لقول إبراهيم: {سَلامٌ} بالرفع، كما تقدم شرحه- انتهى-.ومنها: مشروعية الضيافة، والمبادرة إليها، واستحباب مبادرة الضيف بالأكل منها.ومنها: استحباب خدمة الضيف، ولو للمرأة لقول مجاهد: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَة} أي: في خدمة أضياف إبراهيم. قال في الوجيز: وكن لا يحتجبن، كعادة العرب ونازلة البوادي، أو كانت عجوزًا، وخدمة الضيفان من مكارم الأخلاق.ومنها: جواز مراجعة المرأة الأجانب في القول، وأن صوتها ليس بعورة. كذا في الإكليل.ومنها: أن امرأة الرجل من أهل بيته، فيكون أزواجه عليه الصلاة والسلام من أهل بيته. ويأتي ذلك أيضًا في آية: {فَأَسْرِ بِأَهْلِك} [هود: من الآية 81] و[الحجر: 65]. اهـ.
|